اقتصادنا والاستهلاك - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


اقتصادنا والاستهلاك
بشار طربيه – 19\03\2009

منذ بداية الاحتلال، وحتى أواسط الثمانينات، تميز مجتمعنا بتجانس نسبي في معدل الدخل. وكان العمل في الزراعة وقطاع البناء، المصدران الأساسيان لدخل الأسرة. وخلال هذه الفترة، وباستثناء أشخاص قلائل من كبار ملاك الأراضي، وعدد أقل من أصحاب ورش البناء والتجار الكبار، شكل مجتمع الجولان طبقة واحدة متجانسة من حيث الدخل وكذلك من حيث القدرة الصرفية النسبية وأنماط الاستهلاك، والذوق العام والتفضيلات الاجتماعية والثقافية التي تعكسها.

وفي أواسط الثمانينات، بدأت تظهر في مجتمعنا معالم فرز طبقي من حيث مستوى الدخل، أصبح واضحًا في مطلع التسعينات، مع ظهور طبقة جديدة من المهنيين الأكاديميين (الأطباء والمحامين والمهندسين بشكل خاص) . ولأن الأكاديميين خاضوا بحكم دراستهم ومعيشتهم خارج الجولان تجارب حياتية ومعرفية مختلفة وجديدة، ولأن تخصصاتهم تدر دخلا أعلى من الزراعة والخدمات والبناء، فانهم بدأوا يتميزون نسبيا بذوقهم العام وتفضيلاتهم الاجتماعية والثقافية عن غيرهم، وبدأت هذه التفضيلات وترجمتها في العادات الصرفية تؤثر وتغير في الذوق العام للمجتمع ككل.

كذلك أدى تزايد عدد السكان ومحدودية توفر الأرض والمنافسة الاستيطانية للزراعة المحلية إلى تشكل طبقة عمالية جديدة لا تعمل في الزراعة، غالبية مصدر رزقها يعتمد على العمل باجرة يومية في قطاعات البناء، والزراعة، والخدمات الإسرائيلية، حيث ترتبط معيشتها بتوفر موسمي وغير ثابت للعمل، ومعدل دخلها يقل بكثير عن معدل دخل طبقة المهنيين الأكاديميين وغيرهم من ذوي الدخل العالي. المهم في هذا السياق، أن مجتمعنا منذ التسعينات، لم يعد مجتمعا متجانسا اقتصاديا، أو طبقيا، من حيث القدرة الصرفية، والتجربة الحياتية، والهموم اليومية.

وتزامنت هذه التغيرات في البنيات الاقتصادية والاجتماعية مع وصول تأثيرات العولمة ونزعتها الاستهلاكية إلى مجتمعنا في مطلع التسعينات، من خلال تماسنا اليومي بالمجتمع الإسرائيلي، وأكثر، من خلال دخول الفضائيات العربية إلى كل منزل في الجولان، التي هي بمجملها نتاج للعولمة، ومسوق لها، من خلال الدعايات والبرامج التي تصور الحياة الاستهلاكية للنخب البرجوازية العربية، وخصوصا البيروتية، بأنها المعيار الذي يجب أن يقلدها ويعيشها كل مواطن عربي. ولأن مجتمعنا لم يعد متجانسا طبقيا، وهو في الوقت ذاته ليس مجتمعا فردانياً، حيث لا تزال تسيطر فيه علاقات واعتبارات الجيرة والقربى وغيرها، بغض النظر عن الموقع الطبقي والقدرة الصرفية، فإن التأثيرات الاستهلاكية للعولمة، شكلت عاملا ضاغطا ومرهقا على الأسر ذات الدخل المتوسط والمتدني.

ففي الماضي، وحيث أن مجتمعنا تميز بالتجانس الطبقي النسبي، تشابهت غالبية الأسر في عاداتها الصرفية وتفضيلاتها الاجتماعية وأذواقها العامة. وبكلمات أخرى، فإن التجانس الطبقي أنتج مساواة نسبية في المجتمع، كانت تعبيراتها واضحة في تشابه الملبس والمأكل والذوق العام وحجم المنزل وما توفرت فيه من ضروريات وكماليات. لكن الظهور التدريجي للتمايز في الدخل، أنتج تمايزا تدريجيا في القدرة الصرفية؛ ولأن غالبية مجتمعنا تعودت على مدار عقود على المساواة في المستوى المعيشي، كان صعبا على الكثيرين من ذوي الدخل المتوسط والمتدني الالتزام بالصرف بقدر ما ينتجون، ومقاومة النزعة للحاق بذوي الدخل العالي، من حيث توفير نفس المستوى المعيشي لأفراد عائلاتهم. وبالرغم من تزايد الأصوات "العقلانية" التي تستنكر الممارسات الاقتصادية لهؤلاء الذين يستهلكون أكثر مما ينتجون، فإن مؤشرات استمرار الاستهلاك الزائد عن القدرة الصرفية لا تزال قوية حتى اليوم، يمكن لمسها في طقوس الزواج والملبس والمأكل وغيرها.

والسؤال المهم في هذا السياق هو: لماذا تستمر نزعة الاستهلاك الزائد والمفرط، بالرغم من الأمثلة الكثيرة في مجتمعنا التي تشير إلى الثمن النفسي والاجتماعي والاقتصادي الباهظ الذي تجنيه، والذي يؤدي في أسوأ أشكاله إلى انهيار أسر بكاملها؟

هذه المقالة هي محاولة متواضعة لتحليل وتقييم حالة اقتصادنا اليوم، تطرح بأن اقتصادنا يفتقد للتنظيم الأهلي وأن الاستهلاك هو عدو اقتصادنا الأول، ومواجهته ليست ضرورة اقتصادية فحسب وانما هي ضرورة سياسية ووطنية حيث أن عادات الاستهلاك بدأت تؤثر سلبا في النسيج الاجتماعي في قرانا وتفتت التعاضد الأهلي بيننا. وبالاضافة للاستهلاك، تستعرض المقالة التحديات الاقتصادية الأساسية التي تواجه قرانا اليوم في مجالات الزراعة والاسكان والتخطيط الاقتصادي الأهلي، وهي لا تدعي تقديم خطة اقتصادية ولا تفترض امكانية تحرير مجتمعنا من تبعيته لاقتصاد الاحتلال فهذا غير ممكن، ولكنها تطرح فكرة بسيطة تقول بأن التعاون والتعاضد الاقتصادي الأهلي في الجولان هو جزء لا يتجزأ من صموده السياسي وتماسكه الاجتماعي واستقلال هويته والارتقاء بمستوى معيشته، وأن البحث عن الحلول لتحدياتنا الاقتصادية على مستوى الفرد أو اقتصاد الأسرة مصيره الفشل إذا لم يندرج ضمن حلول جمعية أهلية للمشكلة.


الاستهلاك في المجتمع الأهلي
قبل الشروع بتحليل واقع مجتمعنا الاقتصادي اليوم، لا بد من تعريف مصطلحي العولمة والاستهلاك، والعلاقة العضوية بينهما. باختصار، مصطلح العولمة كما هو مستعمل في الغرب، يشير إلى أن الثورة التكنولوجية والمعلوماتية التي شهدها العالم في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات (والمستمرة حتى الآن)، قربت المسافات وسهلت التنقل والاتصالات ونقل البضائع، مما حول العالم بأسره إلى قرية صغيرة، فأصبح بالإمكان التحدث عن اقتصاد عالمي، واستهلاك عالمي. ولأن الغرب الرأسمالي يؤمن بأيديولوجية أن الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الأمثل الذي يجب أن يسود في كل العالم، وبهدف الربح، بدأت النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية الليبرالية في الغرب، تعمل على تعميم وتصدير ثقافة الرأسمالية، إلى ما يسمى "مجتمعات العالم الثالث" من خلال ما أسمته: "إدماج هذه المجتمعات في السوق العالمية". المهم في هذا السياق، هو أن العولمة هي عولمة الرأسمالية، وتحويل العالم إلى سوق موحد تستهلك فيه البضائع والثقافة والأفكار، بالأسعار وبالطريقة التي يحددها منطق السوق "الحر" وفكرة الربح. وبالتالي فان فكرة الاستهلاك في العولمة، تعزز من منطق اكتساب الحاجات المادية وغيرها، ليس بسبب الحاجة والضرورة إليها، وإنما خدمة لحركة السوق. ولتحقيق هذا، تصبح وسائل الإعلام، بمختلف أشكالها، الحيز الأساسي الذي تتم فيه إعادة صياغة أذواق المجتمعات، ومحاولة إقناع الفرد بأن السلعة المعروضة هي ضرورية، وليست كمالية في حياته/ها. ويمكن لمس تأثيرات العولمة في التحولات النوعية في محيطنا، والتي بدأت في مطلع التسعينات، مع ظهور الفضائيات التي أصبحت تؤثر في ذوقنا العام، والاستهلاك الذي تعرضه وتعززه باساليب مباشرة وغير مباشرة يعكس، ويحاول تعميم، القيم والعادات الاجتماعية والاقتصادية للنخب العربية التي تقلد في نهجها الحياتي النخب الغربية. وأقصد بالذوق العام التذوق الحسي بكافة أشكاله، وهو يشمل استهلاك السلع بأشكالها الضرورية والكمالية، من غذائية وترفيهية وفنية (كالاغنية والفيلم والمسلسل، الخ). وعلى الرغم من التفاوت والاختلاف النسبي في العادات الاستهلاكية بين الفئات المتعددة في مجتمعنا سواءا كان بين متدينين أو غير متدينين، رجال أو نساء، صغار أو شباب أو مسنين، فإن ثقافة الاستهلاك تمتلك قدرة تأثيرية أشبه بالعدوى تخترق جميع هذه الفئات بطريقة أو بأخرى، بدأت تفعل وتغير في عاداتها وتقاليدها وبنياتها الاجتماعية/النفسية، ولهذا وجب مقاومتها جماعيا.

الأصوات والتحليلات "العقلانية" في مجتمعنا، التي تحاول أن تناقش ظاهرة الاستهلاك المفرط، لا تأخذ تأثيرات العولمة في مجتمعنا بشكل جدي، وإنما تعزي هذه الحالة، إلى "انعدام المسؤولية" الفردية"، وترى أن الحل هو: "التخطيط العقلاني لاقتصاد الأسرة"، مشيرة إلى أن المجتمعات الغربية "المتقدمة"، تتميز بمسؤولية في قراراتها الصرفية، لا تتوفر حتى الآن في مجتمعنا. وبدون التقليل من شأن المسؤولية الفردية التي تطرحها هذه الأصوات، وبغض النظر عن عدم دقة وصفها للمجتمعات الغربية، فإن هذه التحليلات، توظف مقارنة خاطئة. حيث لا يمكن مقارنة الممارسات والقدرة الصرفية لمجتمعات، معدل الدخل فيها يفوق بأضعاف معدل الدخل في المجتمعات المقارنة بها، ناهيك عن أن مجتمعنا يعيش حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية استثنائية، بسبب احتلال يتدخل في مسار اقتصاده ويطمح الى تحويل غالبية أبناءه وبناته الى قوة عمل رخيصة في خدمة المجتمع اليهودي الاسرائيلي، تنفق دخلها على استهلاك السلع المنتجة في أو التي يسوقها ذلك المجتمع، وهذه ليست وجهة نظر انطباعية وإنما سياسة حقيقية نصت عليه كافة خطط الاستيطان الاسرائيلية في الجولان المنشورة منذ أواخر الستينات وحتى اليوم والتي تعرف قرانا بأنها مصدر قوة العمل الرخيص التي يجب توظيفها في قطاع الخدمات في المستوطنات الكبرى مثل كتسرين.

كذلك تتجاهل الأصوات "العقلانية"، التركيبة الاجتماعية الخاصة بمجتمعنا كمجتمع أهلي، تتحدد عضوية الفرد فيه أكثر بما يملكه/تملكه من قواسم مشتركة مع الآخرين، وأقل بما يميزه/ها كفرد. فالأسر ذات الدخل المتدني، تخضع يوميا لضغوطات اجتماعية ونفسيه هائلة، كي تحافظ على نمط حياة مشابه لغيرها. فتجد نفسها مثلا في حالة لحاق دائم، لتوفر لأطفالها نفس الملابس والأحذية والألعاب والمصروف اليومي، التي تستهلكها مثيلاتها من الأسر ذات الدخل الأعلى. وهذا شيء طبيعي، خاصة في مجتمع تعود دائما على المساواة النسبية في القدرة والعادات الصرفية بغض النظر عن الموقع العائلي واعتبارات الجاه والحسب والنسب. والعلاقات الاجتماعية بين الجيران والأصدقاء والأخوة في مجتمعنا حتى الآن، لا تتحدد بالموقع الطبقي للفرد، وإنما يعيش الناس جنبا إلى جنب، ويتبادلون الزيارات، ويلعب أبناؤهم وبناتهم معا، بغض النظر عما يملكون. وتأثيرات الصرف الاستهلاكي في مجتمعنا هي أشد بكثير منها في مجتمعات أخرى متمايزة طبقيا، لأن التمايز الطبقي في المجتمعات الأخرى، ينتج تمايزاً وعزلاً سكنياً، حيث يعيش الفقراء في أحياء فقيرة، والأغنياء في أحياء غنية، مما يقلل من التماس والتوتر الاجتماعي اليومي بين الفئتين، وينتج فوارق في معدلات الصرف.

وحيث أن الاستهلاك الزائد أصبح قاعدة وليس استثناء في مجتمعنا، وبدأ بالتجذر في نفسية الأجيال الصغيرة التي ولدت في بيئته، كان من الطبيعي أن تتحول مدارس الجولان، إلى بيئة معادية للطفل الفقير، الذي تحول مظهره ومصروفه إلى موضوع للتعليق والسخرية من قبل باقي الأطفال؛ وأصبح من الطبيعي والمتوقع أيضا، أن يحاول الوالدين من ذوي الدخل المتدني، أن يوفروا لأطفالهم ما هو متوفر لغيرهم، بغض النظر عن قدرتهم المالية، أو رأيهم في أهمية وضرورة الشيء المحدد الذي يطلبه الطفل.

وفي مجتمعنا، الذي لا يزال يتميز بهويته الجماعية وليس بفردانيته، لا يمكن أن نستعين بنظريات التحليل الاقتصادي الغربية، لأنها تعتمد أصلا على فكرة المجتمع كتجمع لأفراد، وتأخذ الأسرة الضيقة كوحدة التحليل الأساسية في منهجياتها. لذلك، لا يمكن أن نمارس فصلا قسرياً للعادات الصرفية في مجتمعنا، عن عاداته الاجتماعية والثقافية. فالعلاقات الاجتماعية للفرد والأسرة في المجتمع الغربي، هي أضيق بما لا يقارن عن تلك في مجتمعنا. حيث نادرا ما يزور الفرد في الغرب جاره إن مرض أو تزوج أو عاد من سفر، ولا يمارس معظم عادات المجتمع الأهلي وهي ممارسات اجتماعية مكلفة اقتصاديا، وأهم من ذلك، أساسية في مجتمعنا في ممارسة الفرد لهويته. فمثلا، لا يأخذ النقاد "العقلانيون" بالاعتبار، أن مجتمعنا لا يزال يتوقع من كل من يدعى إلى حفل زفاف، أن يترك وراءه مغلفا معنونا باسمه، يحوي مبلغا ماليا لا يمكن أن يقل عن حد أدنى، بغض النظر عن الحالة الاقتصادية لأسرته، وأننا "نعتب" على من ندعوهم إلى أعراسنا إن لم يحضروا؛ وإذا رغب شخص من أسرة ذات دخل متدنٍ بالزواج، فإنه غالبا ما يخضع لضغوط شديدة من أقاربه وأصدقائه لدفع مصاريف استهلاكية زائدة ومرهقة، كوجبة طعام للحضور، وغيرها. هذه فقط بعض مظاهر الاستهلاك، التي إذا توقعنا من ذوي الدخل المحدود عدم ممارستها، فإننا عمليا ننفيهم من المشاركة في حياة مجتمعهم.

الاستهلاك والاقتراض
بدون شك، فإن الحالة العامة للاقتصادنا المحلي تأثرت بالنمو العام والأزمات الاقتصادية التي مر بها اقتصاد الاحتلال منذ 1967 وحتى الآن، وتباينت حالة اقتصادنا بين فترة واخرى من حيث توفر رؤوس الأموال المحلية والاستثمارات الخاصة والاقتراض من القطاع الخاص وغيره، لكن بالمجمل العام يمكن التمييز بين مرحلتين اقتصاديتين مر بهما مجتمعنا منذ بداية الاحتلال وحتى اليوم، الأولى منهما بين 1967 وأواسط الثمانينات حيث تضاعف خلالها عدد السكان، والثانية بين أواسط الثمانينات واليوم وتضاعف فيها عدد السكان مرة ثانية. وخلال المرحلة الأولى للاحتلال، ولأسباب لا تتعلق بسياساته وإنما بالرغم عنها، وبالرغم من تضاعف عدد السكان، تحسن معدل الدخل ومستوى المعيشة في قرانا، من حيث الدخل والتوفير مقارنة بالصرف. أما المرحلة الثانية المستمرة منذ أواخر الثمانينات، ولأسباب يتعلق بعضها بسياسات احتلالية مباشرة بعد الإضراب الكبير لإضعاف اقتصادنا المحلي، ولاحقا بسبب دخول العولمة والاستهلاك، وبتأثير سلبي ناتج عن التضاعف الجديد في عدد السكان، تدهور مستوى معيشتنا ومعدل الدخل والقدرة على التوفير، لدى القطاع الأكبر في قرانا، واتى هذا التدهور على الرغم من أن الدخل العام لمجتمعنا اليوم هو أكثر بكثير مما كان عليه في عقدي السبعينات والثمانينات. هذا التحول زاد من حالات اللجوء للاقتراض في مجتمعنا.

وتاريخيا، توفر في مجتمعنا نظام الاقتراض التقليدي الذي يعتمد على الثقة، والذي بناءً عليه يقترض الفرد بدون فائدة، أو في حالات قليلة بفائدة لا تذكر، من قريبه أو جاره أو صديقه، أو يأخذ البضائع من الدكان و"يسجلها"، أو يعمل لدى ابن بلده (إذا كان قصارا أو بلاطا أو دهانا أو صاحب ورشة بناء... الخ) حتى "بيع الموسم"، أو تلقي "قبضة آخر الشهر". وهذا النظام أثبت نجاعة مدهشة عبر عقود، وكان نتيجة، وعاملا منتجا في ذات الوقت، للعلاقات الاجتماعية الأهلية في مجتمعنا. لكن، ومع دخول الاستهلاك في حياة مجتمعنا والانخفاض النسبي للقدرة التوفيرية، زاد عدد المقترضين فيما تقلصت نسبة القادرين على الاقراض، وتقلص معدل المبالغ الممكن اقتراضها بهذه الطريقة.

بالمقابل، شهدت التسعينات تسهيلات في الاقتراض في القطاع الربحي الخاص المتمثل بالبنوك الإسرائيلية والصرافين المحليين، وخصوصا القدرة على اقتراض مبالغ غير متوفرة في نظام الاقتراض التقليدي، لبناء منزل أو شراء سيارات، الخ. ومع تزايد الاستهلاك وانخفاض معدل الدخل، أو القيمة النسبية للدخل لدى قطاعات واسعة من مجتمعنا وخصوصا العمال، أصبحت القروض البنكية مخرجا سريعا، وفي أحيان كثيرة مخرجا وحيدا، لشبان في أواخر العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، يريدون بناء منازل ليتزوجوا أو ليعيشوا فيها مع عائلاتهم.

وقد أنتج الالتقاء والتفاعل بين نظامي الاقتراض هذين، حالات اقتراض مفرط، لم يستطع كثيرون بسببها أن يسددوا ما اقترضوه، ولأن عدم الالتزام بشروط القروض البنكية يحمل تبعات قانونية، فإن أولوية الدفع بالنسبة للمقترضين كانت بالضرورة الالتزام بالدفعات البنكية. بالمقابل، تحمل المقرضون المحليون (الذي اقرضوا أموالا أو بضائع أو عمل مأجور)، ثمن فشل المقترضين عن الدفع، مما أدى إلى فشل الكثير من المشاريع المحلية، كالدكاكين والمحلات التجارية التي تفتح وتقفل خلال سنة أو أكثر، بسبب عدم تسديد الزبائن ديونهم، وخلقت توترا وخلافات في العلاقات بين الطرفين. هذه الظاهرة الجديدة، أفرزت حالة عامة من الاستنكار وعدم الثقة بين الناس، وتفسيرات مبالغ فيها، بأن أخلاقيات مجتمعنا أصبحت متدهورة. وأصحاب هذا الرأي يعتمدون في إثباتهم لهذا الرأي، على قصص معروفة عن أشخاص، بالرغم من توفر المال والقدرة لديهم لتسديد ديونهم، فإنهم لم ولا ينوون تسديدها؛ ولا شك أن معظم هذه القصص حقيقية، لكن لا شك أيضا بأنها لا تمثل رقميا وتحليليا، الغالبية الساحقة من حالات المقترضين الذين فشلوا في تسديد ديونهم.

عاداتنا الاجتماعية، التمايز الطبقي الجديد، والاستهلاك
تاريخياً، اعتمد مجتمعنا ومارس عادات وتقاليد اجتماعية ضرورية، وجميلة برأيي، هدفها التعاضد الاجتماعي والتكافل الاقتصادي، مثل ظاهرة "النقوط" في الأعراس، وهي على مستوى معين، نوع من الإقراض الجماعي للفرد يوم زفافه، يسددها على مدار حياته من خلال ممارسة نفس العادة. ولأن مجتمعنا كان خاليا من التمايز الطبقي، ولأن طقوس الزواج كانت متحررة من المظاهر والطقوس الاستهلاكية، مثل "تلبيس الذهب" والطعام المكلف واستئجار القاعات وغيرها، فإن جزءاً بسيطاً من "النقوط" كان كفيلا بتغطية كل مصاريف الزواج، فيما استثمر ما تبقى في تغطية مصاريف ضرورية، أو استثمر باتجاه بناء بيت للأسرة الجديدة، الخ. وباستثناء حالات نادرة، ساد في الماضي شكلان من الأعراس: الأعراس المتواضعة في أوساط المتدينين التي أخذت شكل "الردة" أو "التأهيل" والأعراس في أوساط غير المتدينين التي طغى عليها الطابع الاحتفالي. وفي كلتا الحالتين، لم يشكل العرس عبئا اقتصاديا على كاهل المتزوج أو المقربين منه.

ومنذ أواخر الثمانينات بدأت التمايزات الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات العولمة والاستهلاك تنتج تعددية في أشكال الأعراس لم نشهدها من قبل. وتعكس هذه التعددية محاولة مجتمعنا للتعامل مع التمايزات المذكورة حيث نشهد اليوم أعراس بقاعة وبلا قاعة، وردة وتأهيل، وجميع هذه تقام مع حفل عشاء أو بدون حفل عشاء، والبعض يقيم حفلة للعريس وحفلة للعروس قبل العرس، فيما يكتفي البعض الآخر بحفلة يوم العرس. ولم تعد الردة والتأهيل مقتصرة على الفئات المتدينة أو نادرة في الأوساط غير المتدينة، حيث أصبحت تتعلق اما بمحاولة تجنب الحرم والمقاطعة الدينيين لبعض الأعراس بسبب طقوسها أو بسبب غياب القدرة المالية لإقامة مثل هذه الاحتفالات. لكن، وبتأثير تدني مستوى معيشة الكثيرين، ودخول العادات الاستهلاكية في الكثير من طقوس الزواج من حيث الارتفاع في تكلفة وكيفيات الاحتفال، أصبح الزواج في الكثير من الحالات يشكل عبئا اقتصاديا على المتزوجين والمقربين منهم.

وبكلمات اخرى، مع بروز التمايز الطبقي، ودخول العولمة والاستهلاك وغيرها من التحولات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعنا، وتفاعلهما مع عادات وتقاليد الماضي، تحولت بعض هذه العادات إلى أعباء لا تخدم، وإنما تعيق التعاضد الاجتماعي والتكافل الاقتصادي بين الناس. والمسار المستقبلي لعلاقتنا مع هذه العادات، يتطلب حلا من اثنين: إما التخلي عنها وهو أمر سيحدث شئنا أم أبينا، طالما استمر مجتمعنا في نهجه الاستهلاكي الحالي، أو المحافظة عليها من خلال تعديلها، لتأخذ بعين الاعتبار واقع التمايز الطبقي الجديد، وإفراغها من مظاهر الاستهلاك التي تطفلت عليها.

كذلك أدى التمايز الطبقي والاستهلاك، إلى استبدال بعض العادات السابقة بأخرى جديدة، يطغى عليها منطق الاستهلاك الشكلي؛ ففي الماضي، كانت علاقة مجتمعنا بالسلعة (بكافة أشكالها)، مبنية على الحاجة والضرورة، أما اليوم، بدأت تطغى علاقة شكل السلعة، ومدى توافقها مع الموضة المتغيرة دائما. وعلى سبيل المثال، كانت غالبية الأسر في مجتمعنا سابقا، تستبدل أثاث المنزل فقط إذا بلي أو أصيب بعطب. أما اليوم، فنجد الكثير من الأسر تستبدل مثلا أثاث غرفة الضيوف أو ستائر المنزل كل بضعة أعوام، فقط لأن أخرى دخلت السوق، وتعتبر بالمعايير الاستهلاكية "موضة أجمل."

ودخول هذه النزعات في وعينا ونهجنا الاجتماعي، أدى إلى تحويل جزء لا يستهان به من دخل الأسرة، إلى صرف شكلي وزائد، يأتي على حساب الحياة النوعية للأسرة، حيث لن تستطيع الكثير من الأسر التوفير لتعليم أبنائها وبناتها في المستقبل، أو التعامل مع أي ضائقة اقتصادية طارئة، بسبب فقدان مصدر الدخل أو حلول أزمة اقتصادية عامة.

المرأة في اقتصادنا
ومن التأثيرات الاجتماعية الايجابية للتحولات الاقتصادية الأخيرة، هو تزايد مشاركة النساء في كثير من قطاعات العمل في الجولان، وخارجه في قطاف الفواكه الموسمي في المستوطنات الاسرائيلية أو من خلال مقاولي تشغيل العمال في القطاع الاسرائيلي. وفي حين أن عددا لا بأس به من النساء الجولانيات يحملن شهادات جامعية في الطب العام وطب الاسنان والهندسة وغيرها من المهن الأكاديمية، فإن الكثيرات لا تعملن في تخصصاتهن أو تعملن خارج الجولان بسبب القيم الرجولية في مجتمعنا الذي لا يزال يفضل الرجال على النساء. لذلك، وفي حين أن الطبقة العاملة ذات الدخل المحدود تزداد اتساعا بالنساء، نرى أنه بالرغم من التعليم العالي الذي يشمل الرجال والنساء في مجتمعنا لا تزال طبقة المهنيين الأكاديميين محصورة بالرجال. وبتأثير التفكير الرجولي الطاغي في مجتمعنا، نلاحظ تمييزا كبيرا في الأجور، في غالبية قطاعات التوظيف المحلي، خصوصا تلك التي غالبية العاملين فيها هم من النساء.

ويفسر هذا الواقع ظاهرة أن التحولات النوعية في ثقافة وتعليم المرأة لم تنتج تحولات نوعية مهمة ومتوقعة مثل ازدياد مشاركة المرأة بالقرار العام وإدارة أحوال مجتمعنا. وحال المرأة العاملة والنشطة في مؤسساتنا لا يختلف كثيرا عنه خارج المؤسسات، وحتى إن وجدنا في بعض المؤسسات تمثيلا كميا للنساء أكبر منه في قطاعات المجتمع الاخرى، فان هذا التمثيل لا يزال غير كاف، وغالبية الوظائف التي تملأها النساء متمركزة في أسفل الهرم الوظيفي. وحتى الآن، لا توجد لدى أي من مؤسساتنا المحلية برامج منهجية أو غير منهجية للتعامل مع هذه المشكلة.

لكن، ولكي لا نلغي أهمية هذه التحولات في حياة المرأة في مجتمعنا، فإن توفر دخل مستقل، دائم أو موسمي، للكثير من النساء بدأ يحد نسبيا من تبعيتهن الاقتصادية للرجل، وبدأ يحد أيضا من الضغوطات الممارسة عليهن للامتثال للقيم الرجولية الفوقية السائدة. لكن تزامن التحولات الإيجابية في واقع المرأة الاقتصادي مع دخول ظاهرة الاستهلاك إلى مجتمعنا، حد من التأثير الإيجابي للإنجازات الاقتصادية المذكورة في تحسين واقع المرأة. وبخلاف الرجل فالعلاقة بين المرأة العاملة والاستهلاك في مجتمعنا هي علاقة مزدوجة، فمن جهة تشكل ممارسة المرأة العاملة للاستهلاك فعل تحرري من خلال صرف دخلها المستقل بالطريقة التي تريدها وهي حرية صرفية واقتصادية التي لم تتوفر لها في الماضي، ومن جهة ثانية فإن القيود الرجولية القليلة التي تحررت منها، استبدلت بقيود الاستهلاك.

اقتصادنا والأزمة السكنية والاستهلاك
من نافل القول، أن بناء منزل في الجولان هو العقبة الأصعب والعبء الأكبر بما لا يقارن، أمام أي شاب وفتاة يرغبان ببناء أسرة. وينتج عن هذا الادعاء استنتاج أهم، هو أن البنية السكنية في مجتمعنا، تستهلك الحيز الأكبر من دخله؛ والمحزن في الأمر، أن الشاب العامل في قطاع البناء مثلا، يضطر للاقتراض، إلى جانب ما أنتجه، على مدار أكثر من 15 عاما من حياته، أي أكثر ربع حياته كإنسان بالغ، ليبني منزلا وأسرة. هذا الواقع يثير سؤالين مهمين: أولا، لماذا أصبح البناء في مجتمعنا مكلفا إلى هذه الدرجة؟ وهل هناك حلول، من شأنها التقليل من هذه التكلفة؟

إلى جانب الأسباب الواضحة للأزمة السكنية المرتبطة بتضييق الاحتلال على مساحات البناء، والتي أدت إلى وصول أسعار أراضي البناء إلى مبالغ خيالية، لقلة العرض وكثرة الطلب، فان الازدياد السكاني في قرانا، والحاجة الإسكانية الملحة، جعلا بناء المنزل المنفرد أسلوبا غير ناجع وغير قابل للاستمرار، حتى على المدى القريب. كذلك فان أساليب البناء المتبعة في منطقتنا مكلفة جدا، عداك عن عدم ملاءمتها لبيئة الجولان، ومعاداتها للبيئة بشكل عام. وأثر دخول العولمة وتجذر النزعة الاستهلاكية في مجتمعنا، على خياراتنا في تخطيط المنزل وحجمه، والمواد المستعملة في بناءه، واختيار أثاثه، وغيرها من عوامل تؤدي مجتمعة، إلى تراكم باهظ في تكلفة البناء.

وأدت الأزمة السكنية الخانقة في مجدل شمس خاصة، إلى استثمارات عقارية خاصة، وان كانت لا تزال قليلة، في بناء بنايات وشقق للإيجار، لكن لا تزال النزعة الاجتماعية السائدة لامتلاك بيت، تتجه نحو بناء المنازل المنفردة. ولا أعتقد بأن هذه الأزمة عاصية عن الحل كما سأقترح لاحقا.


مقاومة الاستهلاك هي مقاومة للاحتلال
بدون شك، فإن الزيادة بالدخل العام لمجتمعنا، بسبب ازدياد التعليم الجامعي والثقافة بشكل عام، دمرها الاستهلاك. فدخل مجتمعنا اليوم هو أكثر بأضعاف مما كان عليه في عقدي السبعينات والثمانينات. لكن الزيادة في الدخل، ترافقت مع زيادة أكثر بما لا يقارن في الاستهلاك، مما وضع مجتمعنا تحت وطأة معاناة اقتصادية لم يشهدها منذ عقود، ولا يمكن تخفيفها، إلا من خلال مواجهة منهجية جماعية لثقافة الاستهلاك. واليوم يمكن ملاحظة علاقة مطردة بين العمر والاستهلاك، وبداية تجذر النزعة الاستهلاكية في البنية النفسية والنهج الاجتماعي للأجيال الشابة. وهناك أسئلة كثيرة تفرض نفسها بقوة علينا اليوم، حول واقعنا الاقتصادي كمجتمع: هل يمكن تفادي التأثيرات السلبية للعولمة في مجتمعنا؟ ما هي الأدوات التي يمكن توظيفها على صعيد شخصي وجماعي، لتغيير ثقافة الاستهلاك التي ضربت جذورها في مجتمعنا؟ كيف يمكن ممارسة التخطيط الاقتصادي في مجتمع يفتقد لسلطة دولة شرعية وإدارة محلية؟ ما هي السبل لتغيير الممارسات الاقتصادية في مجتمعنا على أسس الإجماع والاختيار؟

الواضح، أنه لا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء! والواضح أيضا، أن العدو الأول لصحة مجتمعنا الاقتصادية، هو الاستهلاك الزائد والمفرط، فتأثيراته لا تقتصر على الأعباء الاقتصادية التي يوقعها باقتصاد الأسرة في مجتمعنا، وإنما في تأثيراته الاجتماعية السلبية، والتغييرات الجذرية التي يحدثها في نسيجنا الاجتماعي. وبرأيي، فإن المفتاح الحقيقي للإجابة على الأسئلة السابقة، يكمن في الإجابة عن سؤال إضافي هو: ما هي مواطن القوة في بنية مجتمعنا وثقافتنا، وتجارب التعاون الناجحة في تاريخنا، التي يمكن استثمارها والتعلم منها لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تواجهنا اليوم؟

منذ بداية الاحتلال، وحتى اليوم، أثبت مجتمعنا قدرته على تنظيم ذاته نسبيا، في غياب سلطة شرعيه تهتم بحل المشاكل التي واجهها. ففي مرحلة الإضراب الكبير، وفي الوقت الذي كنا ندافع فيه عن هويتنا، وفي ظل حصار اقتصادي قاسٍ، أنجز مثلا مشروع المجاري في مجدل شمس، فقط بفضل التعاضد الاجتماعي، والإحساس بالهوية الجماعية والمصير المشترك؛ وأنجز هذا المشروع قفزة نوعية، في حياتنا الصحية والبيئية؛ وفي السنوات اللاحقة، أنجزت مشاريع البرادات الزراعية في معظم القرى، مما خفف من وطأة أزمة بيع الفواكه بأسعار منخفضة. وبسبب ضائقة توفر مياه الري الناتجة عن مصادرة الاحتلال للكثير من مصادر المياه في قرانا وأراضينا، نجح مزارعونا بالتحويل إلى أسلوب الري بالتنقيط، بين أواسط وأواخر الثمانينات. والأمثلة على القدرة التنظيمية الجيدة التي أظهرها مجتمعنا منذ الاحتلال وحتى اليوم، لا تحصى.

والشروط الأساسية التي توفرت وأسهمت بنجاح كافة هذه المشاريع الأهلية هي: 1) الاعتراف العام بوجود مشكلة. 2) الإجماع على ضرورة حلها. 3) أن لحل هذه المشاكل مردود شخصي ينعكس إيجابا على حياة غالبية الأفراد في مجتمعنا. 4) المبادرة الجماعية للخروج بحل وتنفيذه. وحتى الآن، لا تتوفر جميع هذه الشروط في موقفنا الجماعي من الاستهلاك الزائد والمفرط. وبرأيي، يعود ذلك إلى أسباب كثيرة، بعضها خاص بطبيعة الاستهلاك كظاهرة، والآخر بتركيبة مجتمعنا. فبخلاف كل المشاكل التي واجهناها سابقا، الاستهلاك لا يظهر كمشكلة يعاني منها الجميع، وإنما كمشكلة فردية يعاني منها أولئك الذين ينفقون أكثر مما ينتجون. والاستهلاك بخلاف مشاكل الماضي، مليء بالإغراءات التي تسوق لنا بصورة مكثفة، من خلال الإعلام والمشاهدة والتجربة الشخصية للسلع، التي نشتريها ويشتريها أقاربنا وجيراننا وأبناء بلدتنا. لذلك، وبتفاعل مع المستجدات الاجتماعية، أي واقع التمايز الطبقي وتمايز القدرة الصرفية في مجتمعنا، فإن الحوار الدائر حول الاستهلاك على صفحات الإنترنت والأحاديث العامة، يتركز فقط على غياب المسؤولية الفردية لدى هؤلاء الذين ينفقون أكثر مما ينتجون.

لذلك، فإن التحدي الأساسي أمام قدرتنا على مواجهة هذه المشكلة، يكمن في إعادة تعريفها في خطابنا العام، من "مشكلة فردية" إلى "مشكلة جماعية"، ومن مشكلة "صرف زائد عن القدرة الصرفية" إلى "صرف زائد بغض النظر عن القدرة الصرفية". فالاستهلاك هو مشكلة جماعية، لأنه من الصعب تخيل أن أي منا، بغض النظر عن قدرته/ها الصرفية، يريد أن تصقل شخصية أبنائه وبناته، على قاعدة التبذير والاستهلاك الزائد والمفرط وغير المسؤول. ولا أعتقد أن أيا منا يرغب بأن نتحول إلى مجتمع استهلاكي، تقاس قيمة الفرد فيه بناءً على اعتبارات شكلية وسطحية بمعظمها، مثل المنزل الذي يبنيه، والسيارة التي يملكها، وماركة الملابس التي يشتريها، وغير ذلك. ولأن الاستهلاك يغير النسيج الاجتماعي بحد ذاته، فهو (أي الاستهلاك) يطغى تدريجيا على طبيعة العلاقات بين الناس، ويفتت تدريجيا الحس بالانتماء الجماعي، والرغبة بالتعاضد والتعاون مع الآخرين لتحسين حالة المجتمع. من هذا المنطلق، وإذا كانت لدينا رغبة بالخروج بمشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي يعالج مشاكلنا الحالية، فإن مهمة مواجهة وتغيير النزعات الاستهلاكية التي بدأت تطغى في مجتمعنا، تصبح بالضرورة أولوية، وهماً جماعياً أساسياً، ويجب أن تندرج ضمن التخطيط لأي مشروع أهلي، داخل وبين قرانا.

ولمواجهة الاستهلاك، لا بد أيضا من مواجهة واستنكار مظاهر الاستهلاك في المناسبات العامة، وخصوصا الأعراس، والتخلي عن شعارات تقليدية بائدة، توظف اليوم في عقلنة الاستهلاك على أنه "فتحة عين"، و"تجنب لحكي الناس"، وغيرها. ولا بد من إعادة النظر في بعض طقوس الزواج، كإطعام كافة المشاركين، وهي ظاهرة جديدة نسبيا ومكلفة، لم تمارس في الماضي إلا نادرا، وفقط من قبل الأثرياء. باختصار، ودون الولوج في مناقشة جميع الجوانب الاستهلاكية في المناسبات العامة، ليس هناك من بديل عن إعادة تعريف بعض التقاليد الممارسة، على أنها تحولت إلى طقوس تبذير مرهقة لاقتصاد الأفراد الذين يمارسوها، والمجتمع عامة. وتغيير هذه الممارسات بدءا بالذات، وانتهاءً بالدعم الفاعل والتشجيع، والدفاع عن هؤلاء الذين يريدون كسر هذه التقاليد، ويخشون العواقب والتبعات الاجتماعية لذلك. وهذه ليست سوى بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها على صعيد فردي وجماعي (غير مؤسساتي).

ولأن مدارسنا ليست لنا، وليس لدينا سلطة على مناهج تعليمها وإداراتها، فإن مسؤولية خاصة تقع على عاتق جميع مؤسساتنا القائمة، بتبني شعار محاربة الاستهلاك ومؤثراته، وإدراج هذه المهمة كجزء رسمي من أجندتها وفعالياتها، والتعاون فيما بينها لصياغة وتنظيم مشترك لحملات شعبية تستهدف كافة الأجيال وتركز على الاستهلاك المسؤول وأبعاده المجتمعية والسياسية، وليس الفردية فقط. وبرأيي فإن التغيرات والتأثيرات الاجتماعية السلبية التي ينتجها وسينتجها النهج الاستهلاكي في مجتمعنا، يجعل من محاربة الاستهلاك مهمة سياسية من الدرجة الأولى، لا يمكن الاستخفاف بها أو فصلها عن المشروع السياسي الوطني الجولاني.

في الوقت ذاته، وبسبب غياب سلطة إدارية واقتصادية وطنية متخصصة منذ بداية الاحتلال، فان التفكير الاقتصادي الجماعي افتقد تاريخيا للمنهجية والتخطيط بعيدي الأمد. لكن اليوم، وفي ظل توفر مؤسسات محلية، ولجان برادات، ولجان ري وزراعة، ومختصين أكاديميين في كافة المجالات، فإن الظروف ملائمة، إذا توفرت الرغبة والمبادرة، لتأسيس لجان قروية متخصصة للتخطيط الاقتصادي، تنسق فيما بينها، وتستكشف إمكانيات الاستثمار الاقتصادي الجماعي الناجح، الهادف إلى تعزيز الاقتصاد المحلي، وتحقيق استقلال نسبي يخفف من تبعيتنا لاقتصاد الاحتلال. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، في ظل أزمة الطاقة والتكلفة الباهظة للتدفئة في الشتاء والتكييف في الصيف، فإن الوقت قد حان لدراسة إمكانية إقامة مشاريع استثمارية أهلية على نمط البرادات الزراعية، لتوفير الطاقة من مصادر بديلة متوفرة معظم أيام السنة في منطقتنا، كالطاقة الشمسية والريح.

أما الأزمة التي تواجهها الزراعة، فأسبابها واضحة، ونوقشت، ولا تزال تناقش بتفصيل في مجتمعنا. لكن تركزت تاريخيا، ولا تزال حتى الآن، على إيجاد حلول للتسويق، وخصوصا في سوريا والعالم العربي. وأعتقد أنه آن الأوان لتوسيع حوارنا عن الزراعة، ليشمل التعامل مع موضوع تكلفتها العالية؛ فبسبب تقلص معدل حجم ملكية الأرض يتزايد عدد ملاك الأراضي الصغار يوما بعد يوم، فيما نلاحظ منذ عقد ونيف، بداية ظاهرة تركيز ملكية الأراضي في أيدي الملاك الكبار، الذي يشترون ويوسعون ويستصلحون الأراضي. ولكي يستطيع الملاك الصغار المحافظة على أراضيهم والاستفادة منها ماليا، لا بد من إيجاد حلول لتقليص تكلفة الزراعة، على رأسها حلول طرحت سابقا من قبل بعض مهندسينا الزراعيين، لكن لم يتم العمل المنهجي لتنفيذها، مثل فكرة المهندس شحاذة نصرالله بتأسيس تعاونية للأدوية والأسمدة الزراعية، يقتصر هامش ربحها على تغطية مصاريف إدارتها. وبرأيي، هناك حاجة مشابهة لتعاونية للآلات الزراعية، تؤجر بأسعار معقولة الآلات الزراعية للمزارعين الصغارتقل بكثير عما يصرفونه سنويا على الآلات التي يمتلكونها من تأمينات وتصليحات ووقود؛ وهذا المشروع، من شأنه أن يزيد من فائض الربح الزراعي، لكن الأهم من ذلك، أن يقلص من عدد الآلات الزراعية في المنطقة، ويقلل من تلويث هوائنا وأراضينا ومصادر مياهنا. وبالرغم من أن زراعة الفواكه شكلت مصدر رزق زراعي للكثيرين، لم تبذل أية جهود منهجية وجدية، لاستكشاف إمكانية التصنيع الغذائي المعتمد على الفاكهة المحلية، أو إقامة مشاريع صناعية مجدية، تعتمد على الاستثمار المجتمعي وليس الفردي؛ ويجب أن يركز تخطيطنا الاقتصادي بشكل خاص، على خلق فرص تشغيل محلية، تكون الأولوية فيها للشرائح الفقيرة أو العاطلة عن العمل، أو التي لا تستطيع لأي سبب من الأسباب أن تجد عملا آخر.

ولا بد من دراسة الأزمة السكنية، والخروج بحلول جذرية لها. وفي مجدل شمس حيث أن هذه المشكلة وصلت إلى حالة تأزم، لا بد من ربط الأزمة السكنية بمشكلة أراضي الوقف العاصية عن الحل منذ أكثر من 15 سنة. فعلى سبيل المثال، هناك حاجة لاستكشاف إمكانية بناء صندوق استثمار سكني، يمول تخطيط وتنفيذ مشاريع سكنية أهلية (بخلاف المشاريع الربحية الخاصة)، يستطيع المشاركون فيها امتلاك منزل في بنايات سكنية مخططة، بشكل يتلاءم مع ثقافة وعادات مجتمعنا، ويتم تسديد ثمن الوحدات السكنية فيها حسب القدرة الاقتصادية للمشتري. وإذا خططت هذه المشاريع بحذر اقتصادي وبصورة تتلاءم مع الظروف البيئية لمنطقتنا، فإن بإمكانها أن تقلص تكلفة البناء إلى النصف أو أكثر، وأن تنتج وحدات سكنية صحية وغير هادرة للطاقة وللدخل.

وبالمجمل العام، فان التحولات الاقتصادية النوعية، التي شهدها الجولان منذ بداية التسعينات، تفاعلت مع تحولات اجتماعية وسياسية وثقافية، وأنتجتها. وسأقوم بمناقشتها في المقالات التي ستتبع. والواضح برأيي، أن هذه التحولات الاقتصادية، بأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية، بحسناتها وبسيئاتها، يجب أن تؤخذ بجدية وبمنهجية في صياغة أي برنامج مستقبلي للمقاومة ذو أبعاد سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وهو أمر لم يحصل حتى الآن.
____________________________________________________________________
أشكر الأصدقاء منير فخرالدين ومحمد طربيه وعاطف الصفدي على مراجعة المسودة الأولى لهذه المقالة وتقديم ملاحظاتهم القيمة عليها، صياغةً ومضموناً. بشار طربيه


هذه المادة هي واحدة من سلسلة مقالات متصلة لبشا ر طربيه:

1. أين نحن من واقعنا اليوم؟ وأين ماضينا في حاضرنا؟
2. اقتصادنا والاستهلاك.